تقارير صحفية

خفيتشا..ميسي جورجيا المُتأثِّر برونالدو..”هل أبرم نابولي صفقة القرن؟”

لطالما كانت قصص صعود لاعبي كرة القدم لأعلى مستويات اللعبة ملهمة للكثيرين مثلما هو الحال مع الجورجي «خفيتشا كفاراتسخيليا» المنتقل من روبن كازان الروسي إلى نابولي خلال الميركاتو الصيفي 2022.

قصة خفيتشا كفاراتسخيليا تحوي في طيّاتها الكثير من العقبات والمشقّات لكنها ليست مثل أولئك الذين عانوا من الفقر أو انخفاض المستوى المعيشي، وأولئك الذين عانوا من الهجرة من بلادهم. من وُلِدوا في ذروة الحروب الأهلية، ومن وُلِدوا وسط أماكن يسودها المافيا والعصابات، وعاشوا طفولة بائسة حتى انتشلتهم تلك الموهبة التي يمتلكونها في أقدامهم من نوائب الدهر، آخذة إيّاهم إلى أعلى سُلّم المجد.

كفاراتسخيليا، أو كفارا اختصاراً لمتاعب النطق، لم يولد في أسرة تعاني على المستوى الاجتماعي، حتى أنه ولد في المدينة الأكبر في جورجيا؛ العاصمة الجورجية تبليسي والتي تنتج وحدها 50% من الناتج الإجمالي المحلي لجورجيا.

خفيتشا كفاراتسخيليا الوريث الشرعي

في الواقع، لم يكن كفارا الابن الخارج عن المألوف داخل العائلة في اهتمامه بكرة القدم، بل اكتسب وورث هذا الاهتمام من والده بادري كفاراستخيليا، والذي كان لاعباً محترفاً وقضى مسيرة طويلة في الملاعب الجورجية وكذلك في الدوري الأذربيجاني مسجلاً 145 هدفاً مع الأندية التي لعب لها، كما حصل على لقب الهداف وبطولة الدوري في أذربيجان، ليس سيئاً أليس كذلك؟

بادري توجه للتدريب بعد أن أنهى مسيرته الاحترافية كلاعب، حتى اضطر أن يعتزل المهنة في 2019 بسبب جراحة في القلب. حديث العائلة الدائم كان كرة القدم، فرجلٌ قارب على الستين من عمره وقضى طيلة حياته على العشب الأخضر لن يتحدث عن وصفات الطبخ على الأرجح. بادري كان شغوفاً باللعبة إلى حدِ كبير، متحدثاً طيلة الوقت عن صفوة اللاعبين وكبار الفرق في القارة العجوز، وكأي طفل صغير يرى في والده القدوة الأولى، نما هذا الشغف لدى كفارا أيضاً.

لماذا كريستيانو رونالدو؟

كفارا تأثر في طفولته بطريقة لعب كريستيانو رونالدو، أما والده فكان مولعاً بنيمار جونيور الذي كان لاعباً لبرشلونة آنذاك، وطبعاً كمعظم الأسر الكروية حول العالم في ذلك الوقت، كانت مشادات برشلونة وريال مدريد الروتينية حاضرة بين الأب وابنه.

متتبعاً لشغفه، بدأ كفارا مسيرته مع كرة القدم في سن صغيرة جداً، حيث انضم لفريق الأطفال بأكاديمية دينامو تبليسي في السادسة من عمره.

واستمر في الترقِّي بالفئات السنية حتى عام 2017 عندما تم تصعيده للفريق الأول بعد أن كان نجم فريق الشباب لخمس سنوات متتالية منذ عام 2012.

لعب خفيتشا كفاراتسخيليا أولى مبارياته بقميص الفريق الأول لنادي دينامو تبليسي بعمر 16 عام وسبعة أشهر فقط، ليصبح خامس أصغر لاعب تمثيلاً للفريق على مدار تاريخ النادي الممتد لقرابة المائة عام.

ميسي جورجيا

صعود كفارا للفريق الأول في هذا السن الصغير لم يأت بمحض الصدفة، زوريكو دافيتاشفيلي صديق طفولته في أكاديمية دينامو تبليسي، والذي لعب معه في الأكاديمية حتى صعدوا سوياً للفريق للأول في سبتمبر 2017، أطلق عليه لقب ميسي جورجيا، لما امتلكه كفارا من موهبة صارخة ميَّزته عن جميع أقرانه.

موهبة كفارا لم تجعله أفضل لاعب في أكاديمية دينامو فقط، بل النجم الاول لمنتخب جورجيا تحت 17 عامًا، حيث لعب مع المنتخب في الفترة بين 2016-2018 إحدى وعشرين مباراة سجل خلالها 15 هدفاً. في ذات الفترة لعب كفارا أيضاً أولى مبارياته مع منتخب تحت 19 عامًا قبل أن يُتم 17 عاماً، تحديداً بعمر 16 عاماً وتسعة أشهر.

ولم يلعب خفيتشا كفاراتسخيليا مع دينامو تبليسي كثيراً، رغم أن ذلك كان حلماً بالنسبة له في طفولته، إلا أن إقامته كانت قصيرة هناك، حيث انتقل إلى نادي روستافي في مارس 2018 بعد 5 أشهر فقط بقميص الفريق الأول لدينامو، لأن والده كان يرى أنه لا يأخذ وقتاً كافياً هناك. صدقاً؛ كان والده مُحقَّاً بعض الشيء، حيث لعب كفارا في تلك الفترة 95 دقيقة فقط مع الفريق كلها كانت من على مقاعد البدلاء.

خفيتشا يلفت الأنظار في يورو الناشئين

مع روستافي سجل كفارا هدفاً في أولى مبارياته وانفجر في موسمه الأول مع الفريق، كما تألق مع المنتخب الجورجي تحت 17 عامًا في تصفيات بطولة اليورو حيث سجل ثلاثة أهداف وصنع هدف آخر، وهو ما جذب إليه انتباه عديد الفرق في الكالتشيو الإيطالي بالإضافة لقطبي ألمانيا دورتموند والعملاق الباڤاري بايرن ميونيخ، وأيضاً أحد أكبر أندية روسيا لوكوموتيڤ موسكو. بنهاية العام 2018، وضعته صحيفة الغارديان في قائمتها المختصرة التي تضم أفضل 60 موهبة حول العالم آنذاك تحت 17 عامًا.

استمر كفارا في التطوّر وإثبات موهبته الفذة يوماً بعد يوم، حتى انتقل معاراً إلى لوكوموتيف في فبراير من عام 2019، وهناك لعب كفارا 10 مباريات مع الفريق لم يسجل فيها سوى هدف وحيد، لكن على الرغم من ذلك قدم كفارا أداءً استثنائياً على لسان مدربه في الفريق آنذاك يوري سيمين، والذي لم يكن سعيداً بسماع أخبار رحيله عن الفريق وعدم قدرة النادي على شراء عقده.

ما زاد الطين بلة، توقيع كفارا مع الغريم روبين كازان الذي سارع لخطف صاحب الـ18 ربيعاً، يوري قال في لقاء صحفي بعد ذلك أنه بكى عندما سمع الخبر، وأنه كان في قمة الحزن لخسارة كفارا، والذي وصفه بأنه موهبة خارقة. يوري أردف قائلاً بأنه كان يتابع كفارا منذ أن كان عمره 15 عام، ومنذ ذلك الحين، لم يفشل كفارا أن يبهره في كل مرة يراه فيها يداعب الكرة.

يوري وزوريكو لم يُبالغا في وصفهما في حقيقة الأمر، كفارا كان موهبة خارقة حقاً، وكان له نصيباً من تسميته بـ”ميسي” لقدرته الكبيرة على المراوغة، كما لو أنه ولد لكي يتجاوز الخصوم واحداً تلو الآخر كقطع الدومينو المتراصّه، ما أن تسقط إحداها يسقط البقية تِباعاً.

دراسة عن الظاهرة الجورجية

الكاتب الإيطالي دانييلي مانوسيا كتب في إحدى تقاريره العام الماضي نقلاً عن دراسة قام بها البروفيسور بجامعة كانساس السيد إيريك سكوت، أنه قد جرت العادة في التاريخ الكروي الجورجي رؤية لاعبين بنفس صفات خفيتشا كفاراتسخيليا، الميل للارتجالية، والإبداع الفردي.

حسناً، لنضفي بعضاً من الدلائل الرقمية لهذا الطرح. كفارا، بعد 11 مباراة من بداية الموسم الكروي 20/21، أتم 90 مراوغة صحيحة من إجمالي 174 محاولة للمراوغة، نسبة نجاح النصف تقريباً ليس أمراً جيداً، لكنه أيضاً ليس سيئاً بالنظر لحجم المحاولات الكبير جداً، وبالنظر لأنه نجح في نصف هذه المحاولات وبـ90 مراوغة صحيحة بمعدل 9 مراوغات لكل 90 دقيقة لعب.

تلك المراوغات من شأنها أن تضع كفارا في مواقف جيدة لصناعة الفرص، حيث بعد 11 مباراة أيضاً كفارا كان متصدراً لإحصائيات صناعة الفرص لكل 90 دقيقة لعب بمعدل 2.2 فرصة، كما أنه تحصل على 5 ضربات جزاء للنادي والمنتخب في الفترة بين يونيو وأكتوبر 2020 لذات السبب. تلك المراوغات قد تفيد أيضاً في فك التكتلات وفك الضغط عن فريقه، وليس فقط إنتاج مواقف جيدة لصناعة الفرص، أو كما يقول روبيرتو دي زيربي؛ المراوغة هي أسمى تفوق تكتيكي.

مزيج بين ميسي ورونالدو

في ثلاث سنوات قضاها في الدوري الروسي الممتاز رفقة روبين كازان، لم يخرج خفيتشا من قائمة أعلى ثلاثة لاعبين في الدوري في عدد المراوغات المكتملة بمعدلات 2.6 و3.4 و2.7 لمواسم 19/20 و20/21 و21/22 على الترتيب، وفي الثلاث مواسم مجتمعين تفوق خفيتشا على الجميع بمعدل 2.9 مراوغة صحيحة لكل مباراة.

مع المنتخب الوطني، كفارا حل ثالثاً في ذات الإحصائية لكل لاعبين المجموعات الأربعة من دوري الأمم الأوروبية 22-23، كفارا في مجموعة تبدو سهلة في دوري الأمم، لكنه لا يهمه كثيراً في الحقيقة من يواجه، فقد فعل ذات الشىء أمام المنتخب الأسباني والمنتخب السويدي، وتصدر ذات الإحصائية رفقة رحيم ستيرلينغ في التصفيات الأوروبية المؤهلة لكأس العالم.

طريقة تجاوزه للخصوم وقدرته على تغيير إتجاه جسده، قدرته على الجري بالكرة لمسافات طويلة دون أن يفقد التحكُّم بها وتسارعه الكبير كذلك، الايماءات الجسدية والقدرة على التمويه والتخلُّص من ضغط الخصوم، كل تلك الأمور أخذها خفيتشا عن ليونيل ميسي، مُستحقاً بذلك لقب ميسي جورجيا عن جدارة.

رغم تشابهه الكبير مع ميسي، إلا أن كفارا ورث بعض الصفات أيضاً عن ملهمه الأول كريستيانو رونالدو، أهم تلك الصفات هي قدرته على إستخدام كلتا القدمين بنفس الجودة تقريباً، خفيتشا يلعب على الرواق الأيسر، عادةً ما يحاول الدخول للعمق والتسديد بالقدم اليمنى القوية، لكنه حتى وإن أخذ الكرة للخارج على قدمه اليسرى فهذا لا يعنى أن الخطورة قد انتهت، فقد يسجل أو يصنع بقدمه اليسرى بكل سرور، كفارا سجل 4 من أهدافه الـ10 الأخيرة بقدمه اليسرى، آخرها هدفه في شباك مونزا في الكالتشيو.

وإذا عدنا إلى دانييلي مانوسيا، الذي وصف كفارا في ذات التقرير بوصفٍ في غاية المثالية؛ «مراوغ فريد من نوعه، مع لياقه بدنية للاعب فنون قتالية من الوزن المتوسط».

كفارا ليس فقط مراوغاً من الصفوة، لكنه يملك أيضاً لياقة بدنية تجعله قادراً على الركض كثيراً دون الشعور بالتعب.

صحيفة غارديان أيضاً أشارت إلى ذات الخاصية لدى كفارا في تقريرها خلال شهر أكتوبر 2018. قد يكن هذا أحد الأسباب التي تجعله ماكينة ضغط متحركة، هذا الموسم في الكالتشيو ضغط كفارا على الخصوم بمعدل 18.5 لكل 90 دقيقة لعبها، متجاوزاً بذلك كل لاعبي نابولي.

علاقة جورجيا بكرة القدم

جورجيا دولة جميلة، تشتهر بالكثير من الأمور في الحقيقة، الأراضي الخضراء الضخمة التي تملأ البلاد، المعالم السياحية الخلابة، والتي تصل إلى 12 ألف معلم تقريباً.

لكن كرة القدم بالتأكيد ليست واحدة من تلك الأشياء العديدة التي تشتهر بها جورجيا. نعم شغف الشعب الجورجي للعبة كبير، إلا أنها كدولة لم تُنتج العديد من المواهب الحقيقية عبر تاريخها، بل أن لاعبي جورجيا الذين وصلوا للمستوى الأعلى من اللعبة يمكن عدّهم على أصابع اليد الواحدة، أبرزهم «كاشا كالادزه» قائد المنتخب السابق ولاعب ميلان الإيطالي في سنوات المجد 2002-2007.

هذا ما يجعل كفارا مُختلفاً في الحقيقة، لم تنتج جورجيا لاعباً مثله لسنوات طويلة، هو أهم لاعبي المنتخب منذ أولى مبارياته مع المنتخب الوطني في عمر الثامنة عشر وثلاثة أشهر، هو ببساطة بطل شعبي هناك.

كفارا بدأ في كتابة سطور روايته السعيدة سريعاً في مدينة الجنوب الإيطالي، جاعلاً الآلاف من مشجعي الأزرق السماوي يحلمون بمعانقة المجد من خلاله.

ويبدو أن كفارا لم يكتف بكونه بطلاً شعبياً هناك في جورجيا، بل أراد أن يهتف قرابة الـ55 ألف مشجع بستاد دييغو مارادونا باسمه عندما بعثر رفاق محمد صلاح وفان دايك في ثاني جولات مجموعات دوري أبطال أوروبا بقيادة نابولي لفوز كاسح على ليفربول (4-1)، فهل حقاً يُعيد التاريخ نفسه، وهل يُعيد “كفارا” أمجاد مارادونا؟

مقالات ذات صلة